فصل: تفسير الآيات رقم (11- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنّا أرسلناك شاهداً‏}‏ تشهد على أمتك يوم القيامة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وهو حال مقدَّرة، ‏{‏ومبشِّراً‏}‏ لأهل الطاعة بالجنة، ‏{‏ونذيراً‏}‏ لأهل المعصية بالنار، ‏{‏لتؤمنوا بالله ورسوله‏}‏ والخطاب للرسول والأمة، ‏{‏وتُعزِّروه‏}‏ تقوُّوه بنصر دينه، ‏{‏وتُوقِّروه‏}‏ أي‏:‏ تُعظِّموه بتعظيم رسوله وسائر حرماته، ‏{‏وتُسبِّحوه‏}‏ تُنزِّهوه، أو تُصلوا له، من‏:‏ السبحة، ‏{‏بكرةً وأصيلاً‏}‏ غدوة وعشية، قيل‏:‏ غدوة‏:‏ صلاة الفجر، وعشية‏:‏ الظهر والعصر والمغرب والعشاء‏.‏ والضمائر لله تعالى‏.‏ ومَن فرّق؛ فجعل الأولين للنبي صلى الله عليه وسلم والأخير لله تعالى، فقد أبعد‏.‏ وقرأ المكي والبصري بالغيب في الأربعة، والضمائر للناس، وقرأ ابن السميفع‏:‏ «وتُعززوه» بزاءين، أي‏:‏ تنصروه وتُعِزُّوا دينه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يُبايعونك‏}‏ على الجهاد، بيعة الرضوان ‏{‏إِنما يُبايعون اللّهَ‏}‏ لأنه خليفة عنه، فعقد البيعة معه صلى الله عليه وسلم كعقدها مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله‏:‏ ‏{‏مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ ثم أكّد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يدُ اللهِ فوق أيديهم‏}‏ يعني‏:‏ أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله، من باب مبالغة التشبيه، ‏{‏فمَن نكث‏}‏ نقض البيعة، ولم يفِ بها ‏{‏فإِنما يَنكُثُ على نفسه‏}‏ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، قال جابر رضي الله عنه‏:‏ «بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألاَ نفرّ، فما نكث أحدُ منا البيعةَ، إلا جَدّ بن قَيْسٍِ المنافق، اختبأ تحت إبطِ بعيره، ولم يَسر مع قومه»‏.‏ ‏{‏ومَن أوفى بما عاهد عليه اللّهَ‏}‏ يقال‏:‏ وفيت بالعهد وأوفيت‏.‏ وقرأ حفص بضم الهاء من «عليه» توسُّلاً لتفخيم لام الجلالة، وقيل‏:‏ هو الأصل، وإنما كسر لمناسبة الياء‏.‏ أي‏:‏ ومَن وفَّى بعهده بالبيعة ‏{‏فسيؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ الجنة وما فيها‏.‏

الإشارة‏:‏ لكل جيل من الناس يبعث اللّهُ مَن يُذكِّرهم، ويدعوهم إلى الله، بمعرفته، أو بإقامة دينه، ليدوم الإيمان بالله ورسوله، ويحصل النصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يُبايعونك‏}‏ الآية، قال الورتجبي‏:‏ ثم صرَّح بأنه عليه السلام مرآة لظهور ذاته وصفاته، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات في نور الفعل، فصار هو هو، إذا غاب الفعل في الصفة، وغابت الصفة في الذات‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين يُبايعونك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وإلى ذلك يُشير الحلاّج وغيره‏.‏ وقال في القوت‏:‏ هذه أمدح آية في كتاب الله عزّ وجل، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه، فيقول‏:‏ لله، وليس هذا من الربوبية للخلق سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ه‏.‏

وقال الحسن بن منصور الحلاج‏:‏ لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسَمِهِ وأشرفه، فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله‏}‏‏.‏

ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ وقال في مختصره‏:‏ يُشير إلى كمال فنائه وجوده عليه السلام في الله وبقائه بالله‏.‏ ه‏.‏ فالآية تُشير إلى مقام الجمع، المنبه عليه في الحديث‏:‏ «فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده» وسائر قواه، الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله وهذا الأمر حاصل لخلفائه صلى الله عليه وسلم من العارفين بالله، أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التربية النبوية في كل زمان، فمَن بايعهم فقد بايع الله، ومَن نظر إليهم فقد نظر إلى الله، فمَن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه، فتيبس شجرةُ إرادته، ويُطمس نور بصيرته، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً شهود ذاته المقدسة على الدوام، والظفر بمقام المقربين، ثبتنا الله على منهاجه القويم، من غير انتكاص ولا رجوع، آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سيقولُ لك‏}‏ يا محمد إذا رجعت من الحديبية ‏{‏المخلَّفون من الأعراب‏}‏ وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية، وهم أعراب غِفَار، ومُزَيْنةُ، وجهينة، وأسلم، وأشجع، والديل، وذلك انه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة، عام الحديبية، معتمراً، استنفر مَن حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي، ليخرجوا معه، حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدُّوه عن البيت، وأحرم صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي؛ لِيُعْلمَ أنه لا يريد حرباً، فتثاقل كثير من الأعراب، وقالوا‏:‏ نذهب إلى قوم غَزوهُ في داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه، فنقاتلهم، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة، فأوحى الله تعالى إليه ما قالوا، حيث تعلّلوا وقالوا‏:‏ ‏{‏شَغَلنا أموالُنا وأهلُونا‏}‏ ولم يكن تخلُّفنا عنك اختياراً، بل عن اضطرار، ‏{‏فاستغفر لنا‏}‏ فأكذبهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‏}‏ فليس تخلُّفهم لأجل ذلك، وإنما تخلَّفوا شكّاً ونفاقاً، وطلبُهم الاستغفار أيضاً ليس بصادرٍ عن حقيقة‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏فمَن يملك لكم من الله شيئاً‏}‏ فمَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه ‏{‏إِن أراد بكم ضَرّاً‏}‏ أي‏:‏ ما يضركم من هلاك الأهل، والمال وضياعها، حتى تخلّفتم عن الخروج لحفظها، ‏{‏أو أراد بكم نفعاً‏}‏ أي‏:‏ مَن يقدر على ضَرَكم إن أراد بكم نزول من ينفعكم، من حفظ أموالكم وأهليكم، فأيّ حاجة إلى التخلُّف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد الله‏؟‏ ‏{‏بل كان الله بما تعملون خبيراً‏}‏ إضراب عما قالوه، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه، أي‏:‏ ليس الأمر كما يقولون، بل كان الله خبيراً بجميع الأعمال، التي من جملتها تخلُّفكم وما هو سببه، فلا ينفعكم الكذب مع علم الله بجميع أسراركم‏.‏

‏{‏بل ظننتم أن لن ينقلب الرسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم أبداً‏}‏ بأن يستأصلهم المشركون بالموت، فخشيتم إن كنتم معهم أن يُصيبكم ذلك، فتخلّفتم لأجل ذلك، لا لما ذكرتم من المعاذيرالباطلة، ‏{‏وزُيِّنَ ذلك في قلوبكم‏}‏ زيّنه الشيطانُ وقبلتموه، واشتغلتم بشأن أنفسكم، غير مبالين بهم، ‏{‏وظننتم ظنَّ السَّوء‏}‏ والمراد به الظن الأول، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة، كعلو الكفر، وظهور الفساد، وعدم صحة رسالته صلى الله عليه وسلم، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة، ‏{‏وكنتم قوماً بُوراً‏}‏ هالكين عند الله، مستوجبين لسخطه وعقابه، جمع‏:‏ بائر، كعائذ وعُوذ، من بار الشيء‏:‏ هلك وفسد، أي‏:‏ كنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم‏.‏

‏{‏ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإِنّا أعتدنا‏}‏ أعددنا ‏{‏للكافرين‏}‏ أي‏:‏ لهم، فأٌقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن مَن لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر مستوجب العسير‏.‏

ونكَّر ‏{‏سعيراً‏}‏ لأنها نار مخصوصة، كما نكَّر ‏{‏نَاراً تَلَظَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وهذا كلام وارد من قِبله تعالى، غر داخل في الكلام المتقدم، مُقرر لبوارهم، ومُبيّن لكيفيته، أي‏:‏ ومَن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين، فإنا أعتدنا له سعيراً يحترق بها‏.‏

‏{‏ولله مُلكُ السماوات والأرض‏}‏ يُدبره تدبير قادر حكيم، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء، ‏{‏يغفر لمن يشاء ويُعذِّب من يشاء‏}‏ بقدرته وحكمته، من غير دخل لأحد في شيء، ومن حكمته‏:‏ مغفرته للمؤمنين وتعذيبه للكافرين‏.‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ مبالغاً في المغفرة والرحمة لمَن يشاء، أي‏:‏ لمَن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله، وأما مَن عداه من الكفر فبمعزل من ذلك قطعاً‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن، واعتذر بأعذار كاذبة، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وما زالت الأشياخ تقول‏:‏ كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم؛ إذ به تحصل التربية والترقية، وتقول أيضاً‏:‏ مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه، وربما يصل إليه المدد في موضعه، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له، بل يُحرم من زيادة الإمداد، ومن الترقي في المقامات والأسرار، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم، وحُرموا السير والوصول، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء‏.‏ قل‏:‏ فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال، أو‏:‏ أراد بكم نفعاً، بأن وصلكم إليه، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم، بل كان الله بما تعملون خبيراً، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح، أو لعذر باطل، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سيقول المخلِّفون‏}‏ المذكورون آنفاً ‏{‏إِذا انطلقتم إِلى مغانمَ‏}‏ أي‏:‏ مغانم خيبر ‏{‏تأخذونها‏}‏ حسبما وعدكم الله بها، وخصَّكم بها، عِوض ما فاتكم من مغانم مكة‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏‏:‏ ظرف لما قبله، لا شرط لما بعده، أي‏:‏ سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر‏:‏ ‏{‏ذَرونا نتَّبِعكم‏}‏ إلى خيبر، ونشهد معكم قتال أهلها ‏{‏يريدون إن يُبدِّلوا كلامَ الله‏}‏ الذي وعد به أهل الحديبية بأن يخصّهم بغنائم خيبر ولا يشاركهم فيها أحد، فأراد المخلَّفون أن يُشاركوهم ويُبدلوا وعد الله‏.‏ وكانت وقعة الحديبية في ذي الحجة سنة ست، فلما رجع إلى المدينة أقام بها بقية ذي الحجة، ثم غزا في أول السابعة خيبر، ففتحها، وغنم أموالاً كثيرة، فخصصها بأهل الحديبية، بأمره تعالى، ‏{‏قل‏}‏ لهم إقناطاً لهم‏:‏ ‏{‏لن تتبعونا‏}‏ إلى خيبر، وهو نفي بمعنى النهي، للمبالغة، أي‏:‏ لا تتبعونا، أو‏:‏ نفي محض، إخبار من الله تعالى بعدم اتباعهم وألا يبدّل القول لديه‏.‏

‏{‏كذلكم قال اللّهُ من قبلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل انصرافهم إلى الغنيمة، وأنَّ غنيمة خيبر لَمن شهد الحديبية فقط، ‏{‏فسيقولون‏}‏ للمؤمنين عند سماع هذا النهي‏:‏ ‏{‏بل تحسدوننا‏}‏ أي‏:‏ ليس ذلك النهي من عند الله، بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم، ‏{‏بل كانوا لا يفقهون‏}‏ كلام الله ‏{‏إِلا قليلاً‏}‏ شيئاً قليلاً، يعني‏:‏ مجرد اللفظ، أو‏:‏ لا يفهمون إلا فهماً قليلاً؛ وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون الدين، وهو ردٌّ لقولهم الباطل، ووصف لهم بسوء الفهم والجهل المفرط‏.‏ والفرق بين الإضرابين‏:‏ أن الأول ردَّ أن يكون حكم الله ألا يتبعوهم وإثبات الحسد، والثاني إضرابٌ عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعظم منه، وهو الجهل وقلة الفقه‏.‏

‏{‏قل للمخلَّفين من الأعراب‏}‏ وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية‏:‏ ‏{‏ستُدْعَوْن إِلى قومٍ أُولي بأسٍ شديدٍ‏}‏ يعني‏:‏ بني حنيفة، قوم مسليمة الكذاب، وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه، لأن المشركين وأهل الردة هم الذين لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السيف‏.‏ واستُدل بالآية على حقيّة خلافة أبي بكر، وأخذها من القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏سَتُدعون‏}‏ فكان الداعي لهؤلاء الأعراب إلى قتال بني حنيفة، وكانوا أولي بأس شديد، هو أبو بكر، بلا خلاف، قاتلوهم ليُسلموا لا ليُعطوا الجزية بأمر الصدّيق، وقيل‏:‏ هم فارس، والداعي لقتالهم «عمر»، فدلّت على صحة إمامته، وهو يدل على صحة إمامة أبي بكر‏.‏ ‏{‏تُقاتلونهم أو يُسلمون‏}‏ أي‏:‏ يكون أحد الأمرين، إما المقاتلة أو الإسلام، ومعنى «يُسلمون» على هذا التأويل‏:‏ ينقادون؛ لأن فارس مجوس، تُقبل منهم الجزية، ‏{‏فإِن تُطيعوا‏}‏ مَن دعاكم إلى قتالهم ‏{‏يُؤتكم اللّهُ أجراً حسناً‏}‏ هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة، ‏{‏وإِن تتولوا‏}‏ عن الدعوة، كما توليتم من قبل في الحديبية، ‏{‏يُعذبكم عذاباً أليماً‏}‏ لتضاعف جُرمكم‏.‏

وقد تضمنت الآية إيجاب طاعة الأمراء بالوعد بالثواب عليها، والوعيد بالعقاب على التولي، وقد تقدّم في النساء‏.‏

الإشارة‏:‏ سيقول المخلِّفون عن السير بترك مجاهة النفوس، التي بها يتحقق سير السائرين‏:‏ ذرونا نتبعكم في السير إلى الله من غير مجاهدة ولا تجريد، يريدون أن يُبدلوا كلامَ الله، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏، فخصّ الهداية إلى الوصول بالمجاهدة، لا بالبقاء مع حظوظ النفوس، قل‏:‏ لن تتبعونا في السير، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة، كذلك حكم الحكيم العليم، فإن قالوا‏:‏ حسدتمونا، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه، فقد دلّ ذلك على جهلهم، وعدم فهمهم، قل للمخلفين على السير، بالبقاء مع حظوظهم‏:‏ ستُدعون إلى مجاهدة قوم أُولي بأس شديد، وهو النفس، بتحميلها ما يثقل عليها، كالذل، والفقر، والهوى بمخالفته، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر، والناس بالفرار منهم جملة، إلا مَن يدلّ على الله، تقاتلوهم، أو يُسلمون، بأن ينقادوا لكم، ويصيروا طوع أيديكم، فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً، وهو لذة الشهة، ورؤية الملك الودود، عاجلاً وآجلاً، وإن تتولوا كما توليتم في زمان البطالة، وبقيتم مع هوى نفوسكم، يُعذِّبكم عذاباً أليماً، بغم الحجاب وسوء العقاب‏.‏

قال القشيري‏:‏ قوله تعالى ‏{‏فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً‏}‏ دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مُرْضية، ثم تتغير للصلاح، وأنشدوا‏:‏

إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه *** فَرَجِّ له بعد الفساد صلاحا

قلت‏:‏ وجه الاستدلال‏:‏ أن طاعتهم كانت بعد التخلُّف والعصيان، فقُبلت منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرجٌ‏}‏ في التخلُّف عن الغزو ‏{‏ولاعلى الأعرج حرجٌ ولا على المريض‏}‏ الذي لا يقدر على الحرب ‏{‏حرج‏}‏ لأن الجهاد منوط بالاستطاعة ونفي الحرج، وهؤلاء أعذارهم ظاهرة صحيحة، فلا حرج عليهم في التخلُّف‏.‏ وفي التصريح بنفي الحرج مع كل طائفة مزيد اعتناء بأمرهم، وتوسيع لدائرة الرخصة‏.‏ ‏{‏ومَن يُطع الله ورسوله‏}‏ فيما ذكر من الأوامر والنواهي، ‏{‏يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومَن يتولّ‏}‏ يُعرض عن الطاعة ‏{‏يُعذبه عذاباً أليماً‏}‏ لا يقادر قدره‏.‏ وقرأ نافع والشامي بنون العظمة، والباقي بيان الغيبة‏.‏

الإشارة‏:‏ أصحاب هذه الأعذار إن صحبوا الرجال، وحطُّوا رؤوسهم لهم، وبذلوا نفوسهم وفلوسهم، سقط عنهم السفر إلى صحبة أشياخهم، ووصفت الواردات والأمداد إليهم في أمكانهم، ونالوا مراتب الرجال، حيث حبسهم العذر من العمى والعرج والمرض المزمن، والله يزرق العبدَ على قدر نيته وهمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏18‏)‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏19‏)‏ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏20‏)‏ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد رَضِي اللّهُ عن المؤمنين‏}‏ وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يبايعونك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان و«إذ» منصوب ب «رَضِيَ»، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة، و‏{‏تحت الشجرة‏}‏‏:‏ متعلق به، أو‏:‏ بمحذوف، حال من مفعوله، أي‏:‏ رَضِيَ عنهم وقت مبايعتهم لك ‏{‏تحت الشجرة‏}‏ أو‏:‏ حاصلاً تحتها‏.‏

رُوي‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحديبية، بعث خِراش بن أمية الخزاعي، رسولاً إلى أهل مكة، فَهَمُّوا به، وأنزلوا عن بعيره، فمنعته الأحابيش، فلما رجع دعا بعُمر ليبعثه، فقال‏:‏ يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحدٌ يمنعني، ولكن عثمان أعزّ بمكة مني، فبعث عثمان إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه صلى الله عليه وسلم جاء زائراً إلى البيت، مُعظِّماً لحُرمته، ولم يُرد حرباً، فوقروه، وقالوا‏:‏ إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال‏:‏ ما كنت لأطوف قبلَ أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتبس عندهم، فأُرجِفَ بأنهم قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا الناسَ إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة- وكانت سمرة وقيل‏:‏ سِدرة- على أن يُقاتلوا قريشاً، ولا يفرُّوا، وأول مَن بايع «أبو سنان الأسدي»، واسمه‏:‏ وهب بن عبد الله بن محصن، ابن اخي عكاشة بن مِحصن‏.‏ وقيل‏:‏ بايعوه على الموت عنده، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنتم اليوم خير أهل الأرض» وقال أيضاً‏:‏ «لا يدخل النارَ أحد ممن بايع تحت الشجرة» وكانوا ألفاً وخمسمائة وخمسةً وعشرين، وقيل‏:‏ ألفاً وأربعمائة‏.‏ والحديبية بتخفيف الياء، قاله في المصباح، وهي على عشرة أميال من مكة‏.‏

‏{‏فعَلِمَ ما في قلوبهم‏}‏ من الإخلاص، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ عِلِمَ ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكيك، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشّر أصحابه، فلمام صُدُّوا خامر قلوبَهم شكٌّ، ‏{‏فأنزل‏}‏ اللّهُ ‏{‏السكينةَ عليهم‏}‏ أي‏:‏ اليقين والطمأنينة، فذهب عنهم‏.‏ ثم قال‏:‏ وفي الآية دليلٌ على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكِّكة، وفي الرَّيب مُوقعة، ثم لا عبرة، فإن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً ألزم التوحيد قلبَه، وقارن التحقيق سِرَّه، فلا يضرُّه كيدُ الشيطان‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏ الآية‏.‏

‏{‏فأنزل السكينة عليهم‏}‏ أي‏:‏ الطمأنينة والأمن، وسكون النفس، بالربط على قلوبهم، ‏{‏وأثابهم‏}‏ أي‏:‏ جازاهم ‏{‏فتحاً قريباً‏}‏ وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدّم‏.‏ ‏{‏ومغانمَ كثيرةً يأخذونها‏}‏ وهي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها بينهم، ‏{‏وكان الله عزيزاً‏}‏ منيعاً فلا يغالب، ‏{‏حكيماً‏}‏ فيما يحكم به فلا يعارَض‏.‏

‏{‏وعَدَكُمْ اللّهُ مغانِمَ كثيرةً تأخذونها‏}‏ هو ما فتح على المؤمنين، وغنموه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة‏.‏ والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان‏.‏ ‏{‏فعجَّلَ لكم هذه‏}‏ المغانم، يعني مغانم خيبر، ‏{‏وكفَّ أيديَ الناس عنكم‏}‏ أي‏:‏ أيدي أهل خيبر وحُلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا، وقيل‏:‏ أيدي أهل مكة بالصلح، ‏{‏ولِتكون‏}‏ هذه الكفَّة ‏{‏آيةً للمؤمنين‏}‏ وعبرةً يعرفون أنهم من الله بمكان، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم، أو‏:‏ لتكون آية يعرفون بها صدقَ الرسول صلى الله عليه وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم، ودخول مكة، ودخول المسجد الحرام آمنين‏.‏ واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر، أي‏:‏ وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين، أي‏:‏ فعجَّل لكم هذه وكفَّ أيدي الناس عنكم لتغنموها ولتكون‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، ‏{‏ويهديكم صراطاً مستقيماً‏}‏ أي‏:‏ يزيدكم بصيرةً ويقيناً وثقةً بوعد الله حتى تثقوا في أموركم كلها بوعد الله تعالى‏.‏

قال الثعلبي، ولمّا فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم حصونَ خيبر سمع أهل فدك ما صنع عليه السلام بأهل خيبر، فأرسلوا له يسألونه أن يُسيرَهم ويحقن دماءهم، ويخلُّوا له الأموال، ففعل، ثم صالح أهلَ خيبر، على أن يعملوا في أموالهم على النصف، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء، ففعلوا، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة له صلى الله عليه وسلم، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولما اطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليَّة مسمومة، أكثرت في ذراعها السم، فأخذ صلى الله عليه وسلم الذراع، فأكل منه، ثم كلّمه، فأمسك، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور، فمات من ساعته، وسَلِمَ صلى الله عليه وسلم حتى قام عليه بعد سنتين، فمات به، فجُمع له بين الشهادة والنبوة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأُخرى لم تَقْدِروا عليها‏}‏ أي‏:‏ وعجّل لكم مغانم أخرى، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين‏.‏ ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجَوْلة‏.‏ ‏{‏قد أحاط اللّهُ بها‏}‏ قَدَرَ عليها واستولى، وأظهركم عليها، وهي صفة أخرى ل «أخرى» مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى، بعد بيان صعوبة مَنَالها بالنظر إلى حِذرهم‏.‏ ويجوز في «أُخرى» النصب بفعل مضمر، يُفسره ‏{‏قد أحاط الله بها‏}‏ أي‏:‏ وقضى الله أخرى، ولا ريب في أن الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعودة بقوله‏:‏ ‏{‏وعدكم الله مغانم كثيرة‏}‏ فيه مزيد فائدة، وإنما الفائدة في بيان تعجيلها وتأخير هذه‏.‏

وقال ابن عباس والحسن ومقاتل‏:‏ ‏{‏وأخرى لم تقدروا عليها‏}‏ هي فارس والروم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما فتحوا حتى اليوم‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال أي‏:‏ لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها، ‏{‏وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ لأن قدرته تعالى عامة التعلُّق، لا تختص بشيء دون شيء‏.‏

قال ابن عرفة‏:‏ مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شيء، فيبقى النظر‏:‏ هل يطلق على الواجب شيء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَىُّ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏ أم لا يطلق عليه شيء‏؟‏ فإن قلنا‏:‏ يصلح الإطلاق وجب التخصيص في الآية، فيكون عامّاً مخصوصاً، وإن قلنا بعدم صحته، فيبقى النظر‏:‏ هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية، فإن أريد الإحداث فهي مخصوصة، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص‏.‏ ه‏.‏

الأشارة‏:‏ مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول، فيقال على طريق الإشارة‏:‏ لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة، تحت ظل شجرة همتك، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق، فأنزل السكينة عليهم، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة، وأثابهم فتحاً قريباً، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ومغانم كثيرة؛ فتوحات ومكاشفات، وأسرار، وترقيات كثيرة، إلى ما لا نهاية له، يأخذونها‏.‏ ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء، والتوسُّع في المقامات، والترقِّي في معارج المكاشفات، فعَجَّل لكم هذه، هو مقام الفناء، وكفَّ أيدي القواطع عنكم، لتتوجهوا إلى مولاكم، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير، يهتدون بهديكم، ويهديكم صراطاً مستقيماً‏:‏ طريق الوصول إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا، ادخرها لكم يوم القيامة، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ ‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ رَضِيَ عنهم في الأزل، وسابق علم القدم، ويبقى رضاه إلى الأبد؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية، لا تتغير بتغيُّر الحدثان، ولا بالوقت والزمان، ولا بالطاعة والعصيان، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية، ولا بالشهوات، لأن أهل الرضا محروسون برعايته، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد، وصاروا متصفين بوصف رضاه، فرضوا عنه كما رضي عنهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله‏:‏ ‏{‏فأنزل السكينة عليهم‏}‏ فسكنت قلوبهم إليه، واطمأنت به؛ لِتنزُّل اليقين‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق، واطمأن به، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم‏.‏

قال اللجائي، في كتابه «قطب العارفين»‏:‏ وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك، وإن كان عاصياً وأنت مطيع، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة، ولا مَن يفوز بالسعادة، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة، ويتلقى سخطه بذنب واحد، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 25‏]‏

‏{‏وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏22‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏24‏)‏ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو قاتلكم الذين كفروا‏}‏ من أهل مكة ولم يُصالحوا، أو من خلفاء خيبر، الذين جاؤوا لنصرهم ‏{‏لَوَلَّوا الأدبارَ‏}‏ منهزمين ‏{‏ثم لا يجدون وليّاً‏}‏ يلي أمرهم، ‏{‏ولا نصيراً‏}‏ ينصرهم‏.‏ ‏{‏سُنَّةَ الله التي قد خَلَتْ من قبل‏}‏ مصدر مؤكد، أي‏:‏ سنَّ الله غلبة أنبيائه سنة ماضية، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏ تغيُّراً‏.‏

‏{‏وهو الذي كفَّ أيديَهم عنكم‏}‏ أي‏:‏ أيدي كفار أهل مكة ‏{‏وأَيْدِيَكم عنهم‏}‏ عن أهل مكة ‏{‏ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم‏}‏ أي‏:‏ أقدركم وسلَّطكم عليهم، يعني‏:‏ قضى بينهم وبينكم المكافَّة والمحاجزة بعدما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، يطلب غرة بالمسلمين، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد على جند، فهزمهم، حتى أدخلهم حيطان مكة، ثم عاد ثانياً فهمزمه، ثم عاد فهزمه، هكذا نقله الثعلبي وغيره‏.‏ فانظره مع ما في الاكتفاء للكلاعي‏:‏ أن خالداً كان مع المشركين في الحديبية، وإنما أسلم بعد الحديبية قبل الفتح، وكان في السنة الثامة، والحديبية في السادسة، والذي ذكر النسفي أنه عليه السلام بعث مَن هزمهم، ولم يسمه، وهزمُ خالد لبعض قريش إنما كان في الفتح، لا في الحديبية، فلعل الراوي غلط‏.‏ وقال أنس‏:‏ إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر، عام الحديبية، ليقاتلوا المسلمين، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سِلْماً، فأعتقهم، فنزلت الآية‏.‏

ووجه المنّة في كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين‏:‏ ما ذكر بعد من قوله‏:‏ ‏{‏ولولا رجال مؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية، أو‏:‏ ما تطرق بسببه من الصلح وانقيادهم إليه، فإنهم لما رأوا أصحابهم انهزموا أذعنوا للصلح، وقال القشيري‏:‏ بعد أن اضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، أنزل الله هذه الآية يمنُّ عليهم، حيث كفّ أيديَ بعضهم عن بعض، عن قدرة من المسلمين، لا عن عجز، فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعباً وخوفاً، وأما المسلمون فنهياً من قِبل الله، لما في أصلابهم من المؤمنين‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وكان الله بما تعملون‏}‏ من مقاتلتهم وهزمهم أولاً، والكفّ عنهم ثانياً، لتعظيم بيته الحرام، وقرأ البصري بياء الغيب، أي‏:‏ بما يعمل المشركون ‏{‏بصيراً‏}‏ فيجازي كُلاًّ بما يستحقه‏.‏

‏{‏هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام‏}‏ ‏{‏و‏}‏ صدُّوا ‏{‏الهدْيَ‏}‏ حال كونه ‏{‏معكوفاً‏}‏ أي‏:‏ محبوساً عن ‏{‏أن يبلغ مَحِلَّهُ‏}‏ أي‏:‏ مكانه الذي يحلّ به نحره، وهو منىً وكان صلى الله عليه وسلم ساق سبعين بدنة، فلما صُدّ، نَحَرَها بموضعه، وبه استدل مَن قال‏:‏ إنّ المحصَر ينحر هداياه بموضعه، وروي أن خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاّه في الحرم، وهناك نحرت هداياه صلى الله عليه وسلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يُقال لمَن سبقت لهم العناية، وحَفّت بهم الرعاية‏:‏ لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة، والشيطان، والهوى، وسائر القواطع، لَوَلُّوا الأدبار، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب، ودخل تحت تربية الرجال، فإن همتهم دائرة عليه، ولن تجد لسنَّة الله تبيدلاً‏.‏ وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم، وكَفّ أيديكم عنهم، من بعد أن أظفركم عليهم، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها، ووجب البرور بها، وتصديقها فيما تحدثه، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده‏.‏ وقيل لبعضهم‏:‏ متى ينتهي سير الطالبين‏؟‏ قال‏:‏ «الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا»‏.‏ وأيضاً‏:‏ لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة‏.‏ هم الذين كفروا من النفوس المتمردة، والهوى، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة، والهديَ معكوفاً، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله، بأن تمنعكم من إعطائه، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب، لئلا تبلغ محل الإخلاص‏.‏

ثم ذكر حكمة منعهم من دخول مكة عام الحديبية، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن تطؤوهم‏}‏‏:‏ بدل اشتمال من رجال ونساء، ومن ضمير «تعلموهم» وبغير متعلق بتطؤوهم، وجواب «لولا» محذوف، أغنى عنه جواب «لو» أي‏:‏ لما كفّ أيديكم عنهم‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولولا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمناتٌ‏}‏ بمكة، ضَعُفوا عن الهجرة ‏{‏لم تعلموهم‏}‏ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين، ‏{‏أن تطأوهم بغير علمٍ‏}‏ أي‏:‏ غير عالِمين بهم ‏{‏فتُصيبَكم منهم معرَّة‏}‏ أي‏:‏ مشقة ومكروه‏.‏ وفي تفسير المحلي «المعرة» بالإثم نظر، مع فرض عدم العلم، إلا أن يُحمل على صورة الإثم، وهو الخطأ، وفيه الكفارة‏.‏ والمعرة‏:‏ مفعلة من‏:‏ عراهُ‏:‏ إذا دهاه ما يكرهه وشقّ عليه، وهو هنا الكفارة إذا قتله خطأ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلو بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والإثم إذا قصد قتله‏.‏ والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة‏.‏

والحاصل أنه كان بمكة قوم مسلمون مختلطون بالمشركين، غير متميّزين منهم، فقيل‏:‏ ولولا كراهة أن تُهلكوا ناساً من المؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فتُصيبكم بإهلاكهم مشقة ومكروه، ولما كففنا أيديكم عنهم، ولسلطانكم عليهم‏.‏

وكان ذلك الكفّ ‏{‏ليُدخل اللّهُ في رحمته‏}‏ أي‏:‏ في توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم، أو‏:‏ ليدخلهم في الإسلام مَن رغب فيه من مشركيهم ‏{‏مَن يشاء‏}‏ زيادته أو هدايته، فاللام متعلقة بمحذوف، تعليل لما دلت عليه الآية، وسيقت له، من كفّ الأيدي عن أهل مكة، والمنع من قتلهم، صوناً لما بين أظهرهم من المؤمنين‏.‏ ‏{‏لو تزيّلوا‏}‏ أي‏:‏ تفرّقوا وتميّز المسلمون من الكافرين، ‏{‏لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً‏}‏ بقتل مقاتلهتم، وسبي ذراريهم‏.‏ ويجوز أن يكون‏:‏ «لو تزيّلوا» كالتكرير ل «لولا‏.‏‏.‏»؛ لمرجعهما لمعنى واحد ويكون ‏{‏لعذَّبنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، هو جواب «لولا» والتقدير‏:‏ ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمناتٍ من غير علم، ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا اختلط أهل الانتقاد مع أهل الاعتقاد، لا يعم البلاء المعدّ لأهل الانتقاد، ولو تزيّلوا لعذبنا المنكرين عذاباً أليماً، وكذلك إذا اختلط الفجّار مع الأبرار، وغلب جمع الأبرار، لا يعم البلاء، ويُصرف عن الجميع، فلو تزيّل الفجّار لعُذبوا عذاباً أليماً‏.‏

قال القشيري‏:‏ قد تكون في النفس أوصاف مستحسنة، تليق بالفيض الألهي، مع أوصاف مذمومة، فلو سلطناكم على إهلاكها بالمرة، لفاتكم ما فيها من الأوصاف الحسنة، فتُصيبكم معرة، ليدخل الله في رحمته بالوصول إلى حضرته من يشاء من النفوس، بتصفية ما فيها من الرذائل‏.‏ لو تزيّلوا تميز ما يصلح قلعه، كالكبر، والشر، والحرص والحقد، أو ما يصلح تبديله، كالبخل بالسخاء، والحرص بالقناعة، والغضب بالحلم، والجبن بالشجاعة، والشهوة بالعفة، لعذَّبنا النفوس المتمردة عذاباً أليماً، بإهلاكها بالكلية‏.‏ بالمعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏إِذ جعلَ الذين كفروا‏}‏ من قريش أي‏:‏ ألقوا ‏{‏في قلوبهمُ الحميِّة‏}‏ أي‏:‏ الأنفَة والتكبُّر، أو‏:‏ صيّروا الحميةَ راسخة في قلوبهم ‏{‏حميةَ الجاهليةِ‏}‏ بدل، أي‏:‏ حَميّة الملة الجاهلية، أو الحميّة الناشئة من الجاهلية، ووضع الموصول موضع ضميرهم، إذ تقدّم ذكرهم، لذمِّهم بما في حيز الصلة، وتعليل الحكم به‏.‏ والجعل بمعنى الإلقاء، فلا يتعدّى إلى مفعولين، أوك بمعنى التصيير، فالمفعول الثاني محذوف، كما تقدّم‏.‏ و«الذين»‏:‏ فاعل، على كل حال‏.‏ ‏{‏فأنزل اللّهُ سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ أنزل في قلوبهم الطمأنينة والوقار، فلم يتضعضعوا من الشروط التي شرطت قريش‏.‏

رُوي‏:‏ أن رسول الله لمَّا نزل الحديبية بعثت قريشٌ سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزَّى، ومِكْرَز بن حفص، على أن يعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتب بينهم كتاباً، فقال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه‏:‏ «اكتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل وأصحابه ما نعرف هذا، ولكن اكتب‏:‏ باسمك اللهم، ثم قال‏:‏ «اكتب‏:‏ هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكة» فقالوا‏:‏ لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، ولكن اكتب‏:‏ هذا ما صالح عليه محمدٌ بن عبد الله أهلَ مكة، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أنّي رسول، وأنا محمد بن عبد الله» فهمّ المسلمون أن يأبَوا ذلك، ويبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقّروا وحلُموا‏.‏ وفي رواية البخاري‏:‏ فكتب عليّ رضي الله عنه‏:‏ «هذا ما قضى عليه محمد رسول الله» فلما أَبَوا ذلك، قال صلى الله عليه وسلم لعليّ‏:‏ «امح رسول الله، واكتب‏:‏ محمد بن عبد الله»، فقال‏:‏ والله لا أمحوك أبداً، فأخذ صلى الله عليه وسلم الصحيفة وكتب ما أرادوا‏.‏ قيل‏:‏ كتب بيده معجزةً، وقيل‏:‏ أَمَرَ من كتب، وهو الأصح‏.‏

‏{‏وإلزمهم كلمةَ التقوى‏}‏ شهادة «لا إله إلا الله» وقيل‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، وقيل‏:‏ محمد رسول الله، وقيل‏:‏ الوفاء بالعهد، والثابت عليه‏.‏ وإضافتها إلى التقوى؛ لأنها سببها وأساسها، وقيل‏:‏ كلمة أهل التقوى‏.‏ ‏{‏وكانوا أحقَّ بها‏}‏ أي‏:‏ متصفين بمزيد استحقاق بها، على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً، أو‏:‏ أحق بها من غيرهم من سائر الأمم ‏{‏و‏}‏ كانوا أيضاً ‏{‏أهلها‏}‏ المتأهلون لها بتأهيل الله إياهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ كلمة التقوى هي التوحيد عن قلبٍ صادق، وأن يكون مع الكلمة الاتقاءُ الشرْك، وكانوا أحق بها في سابق حكمه، وقديم علمه، وهذا إلزام إكرام ولطف، لا إلزام إكراهٍ وعنف، وإلزامُ بر، لا إلزام جبر‏.‏

ه‏.‏ ‏{‏وكان الله بكل شيء عليماً‏}‏ فيجري الأمور على مساقها، فيسوق كلاًّ إلى ما يستحقه‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يصل العبد إلى مولاه حتى تكون نفسه أرضية، وروحه سماوية، يدور مع الحق أينما دار، ويخضع للحق أينما ظهر، ولأهله أينما ظهروا، لم تبقَ فيه حَميّة ولا أَنفة، بل يكون كالأرض يطأها البار والفاجر، ولا تميز بينهما، وأما مَن فيه حمية الجاهلية، فهو من أهل الخذلان، وأما أهل العناية، فأشار إليهم بقوله‏:‏ ‏{‏فأنزل الله سكينته على رسوله‏}‏ فكان متواضعاً سهلاً ليناً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 4‏]‏ وعلى المؤمنين فأخبر عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمآءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ الآية، و«ألزمهم كلمة التقوى»، «لا إله إلا الله» لأنها تهذِّب الأخلاق، وتُخرج ما في القلب من الأمراض والنفاق؛ لأن النفي‏:‏ تنزيه وتخلية، والإثبات‏:‏ نور وتحلية، فلا يزال النفي يخرج مِنَ القلب ما فيه هي الظلمة والمساوئ، حتى يتطهّر ويتصف بكمال المحاسن‏.‏

قال في نوادر الأصول، لمّا تكلم على ‏{‏وألزمهم كلمة التقوى‏}‏‏:‏ هو «لا إله إلا الله»، وجه تسميتها بذلك‏:‏ أنه اتقى بها ونفى ما أحدث من الشرك، حميةً للتوحيد وعصبيةً وغيرةً، اقتضاها نورُ التوحيد والمحبة، فنفى القلبُ كلَّ رب ادعى العبادُ ربوبيته، وولِهت قلوبهم إليه، فابتدأ هذا القلب- الذي وصفنا- بالنفي لأرباب الأرض، ثم سَما عالياً حتى انتهى إلى الرب الأعلى، فوقف عنده، وتذلّل وخشع له، واطمأن وولِه إليه‏.‏ وقال لنبيه‏:‏ ‏{‏سَبْحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ أي‏:‏ إن هذه أرباب متفرقون، والرب الله الواحد القهار، فهداه إلى الرب الأعلى، وقال‏:‏ ‏{‏وَأنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ألزم قلوبَهم هذه الكلمة بنور المحبة، كما قال‏:‏ ‏{‏حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏، فبحلاوة الحب، وزينة البهاء، صارت الكلمة لازمةً لقلوبهم‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا أحق بها وأهلها‏}‏ فإنما صاروا كذلك؛ لأن الله كان ولا شيء، فخلق المقادير، وخلق الخلق في ظلمة، ثم رشّ عليهم من نوره، فمَن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضلّ، فقد علم مَن يخطئه ممن يصيبه‏.‏ ثم ذكر أحاديث، من ذلك‏:‏ حديث ابن عمرو‏:‏ «إن الله خلق خلقه، ثم جعلهم في ظلمة، ثم أخذ من نوره ما شاء، فألقاه عليهم، فأصاب النور مَن شاء أن يُصيبه، وأخطأ مَن شاء أن يخطئه‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ ثم قال بعد كلام طويل‏:‏ ثم لمّا نفخ الروح في آدم أخرج نَسَمَ بنيه، أهل اليمين، من كتفه الأيمن في صفاء وتلألؤ، وأصحاب الشمال كالحمَّة سُود من كتفه الأيسر، والسابقون أمام الفريقين، المقربون، وهم الرسل والأنبياء والأولياء، فقرّبهم كلهم، وأخذ عليهم ميثاق على الإقرار بالعبودية، وأشهدهم على أنفسهم، وشهد عليهم بذلك‏.‏ ثم ردّهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلاً إلى الأرحام‏.‏ ه‏.‏

وقال الجنيد رضي الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا أحقَّ بها وأهلَها‏}‏‏:‏ مَن أدركه عناية السبق في الأزل جرى عليه عنوان المواصلة، وهو أحق بها، لِما سبق إليه من كرامة الأزل‏.‏ ه‏.‏ والحاصل‏:‏ أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية، وبقيت نعوتها وأنوارها في قلوبهم، دون الذي حجبهم الله عن رؤية نورها‏.‏ قاله في الحاشية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد صَدَقَ اللّهُ رسولَه الرؤيا‏}‏ أي‏:‏ صدَقه في رؤياه ولم يكذبه- تعالى الله عن الكذب- فحذف الجارَ وأوصل الفعل؛ كقوله‏:‏ ‏{‏صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ يقال‏:‏ صدقه الحديث‏:‏ إذا حققه وبيّنه له، أو‏:‏ أخبره بصدق رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى في النوم، قبل خروجه إلى الحديبية، كأنّه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا وقصّروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا، وحسِبوا أنهم داخلوها، وقالوا‏:‏ إن رؤيا رسول الله حق‏.‏ والله تعالى قد أبهم الأمر عليهم لينفرد بالعلم الحقيقي، فلما صُدوا، قال عبد الله بن أُبيّ وغيرُه من المنافقين‏:‏ والله ما حلقنا ولا قصّرنا، ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت‏:‏ ‏{‏لقد صَدَقَ اللّهُ رسوله‏}‏ فيما أراه، وما كذب عليه، ولكن في الوقت الذي يريد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ إما صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ صدقاً ملتبساً بالحق، أي‏:‏ بالغرض الصحيح، والحكمة البالغة التي تُميز بين الراسخ في الإيمان، والمتزلزل فيه، أو‏:‏ حال من الرؤيا، أي‏:‏ ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام، ويجوز أن يكون قسَماً، أي‏:‏ أقسم بالحق ‏{‏لَتدخُلُنَّ المسجدَ الحرامَ‏}‏ وعلى الأول‏:‏ جواب القسم محذوف، أي‏:‏ والله لتدخلن المسجد الحرام، والجملة القسمية‏:‏ استنئاف بياني، كأن قائلاً قال‏:‏ ففيم صَدَقَه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏لتدخلن المسجد إن شاء الله‏}‏ وهو تعليق للعِدة بالمشيئة لتعليم العبادة‏.‏ قال ثعلب‏:‏ استثنى الله فيما يعلم؛ ليستثني الخلق فيما لا يعلمون‏.‏ وقال في القوت‏:‏ استثنى الله معلماً لعباده ورَادّاً لهم إلى مشيئته، وهو أصدقُ القائلين، وأعلمُ العالمين‏.‏ ه‏.‏ أو‏:‏ للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه، لموت، أو غيبة، أو غير ذلك، أو‏:‏ هو حكاية لِما قاله ملَك الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لِما قاله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حين قصّ عليهم، أي‏:‏ والله لتدخلنها ‏{‏آمنين‏}‏ من غائلة العدو، فهو حال من فاعل «لتدخلن» والشرط معترض‏.‏ ‏{‏مُحلِّقين رؤوسَكم ومقصِّرين‏}‏ أي‏:‏ محلقاً بعضكم، ومقصراً آخرون، ‏{‏لا تَخافون‏}‏ بعد ذلك أبداً، فهو حال أيضاً، أو استئناف، ‏{‏فَعِلمَ ما لم تعلموا‏}‏ من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل، ‏{‏فجعل من دون ذلك‏}‏ فتح مكة ‏{‏فتحاً قريباً‏}‏ وهو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوبُ المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ العارف الكامل لا يركن إلى شيء دون الله تعالى، فلا يطمئن إلى وعد، ولا يخاف من وعيد، بل هو عبد بين يدَي سيده، ينظر ما يبرز من زمن عنصر قدرته، فإن بُشِّر بشيء في النوم أو اليقظة، لا يركن إليه، ولا يقف معه؛ لأن غيب المشيئة غامض، وإن خُوّف بشيء في النوم أو غيره، لا يفزع ولا يجزع؛ لأن الغنى بالله والأُنس به غيَّبه عن كل شيء، وفي الله خلف من كل تلف «ماذا فقد من وجدك‏؟‏» والله يتولى الصالحين،

‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏

قال في الإبريز‏:‏ الرؤيا المُحْزِّنة إنما هي اختبار من الله للعبد، هل يبقى مع ربه أو ينقطع عنه، فإن كان العبد متعلقاً به تعالى، ورأى الرؤيا المحزنة، لم يلتفت إليها، ولما يُبال بها؛ لعلمه بأنه منسوب إلى مَن بيده تصاريف الأمور، وأنَّ ما اختاره تعالى سبقت به المشيئة، فلا يهوله أمر الرؤيا، ولا يلقي إليها بالاً، وهذه لا تضره بإذن الله تعالى‏:‏ وإذا كان العبد غير متعلق بربه، ورأى رؤيا محزنة، جعلها نصب عينيه، وعمّر بها باطنه، وانقطع بها عن ربه، ويُقدِّر أنها لا محالة نازلة به، فهذا هو الذي تضره؛ لأنَّ مَن خاف من شيء سلّطه عليه‏.‏ ه‏.‏

وسُئل سهل التستري رضي الله عنه عن الاستثناء في هذه الآية، فقال‏:‏ تأكيداً في الافتقار إليه، وتأديباً لعباده في كل حال ووقت‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ أدّبهم لئلاّ يقفوا مع شيء دونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏28‏)‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى‏}‏ بالتوحيد، أي‏:‏ ملتبساً به، أو‏:‏ بسببه، أو‏:‏ لأجْله، ‏{‏ودينِ الحق‏}‏ وبدين الإسلام، وبيان الإيمان والإحسان، وقال الورتجبي‏:‏ ودين الحق‏:‏ هو بيان معرفته والأدب بين يديه‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ليُظهره على الدين كله‏}‏ ليُعْلِيَه على جنس الدين، يريد الأديان كلها من أديان المشركين وأهل الكتاب، وقد حقّق ذلك سبحانه، فإنك لا ترى ديناً قط إلا والإسلام فوقه بالعزة والغلبة، إلا ما كان من النصارى بالجزيرة، حيث فرّط أهل الإسلام، وقيل‏:‏ هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر‏.‏ وقيل‏:‏ هو إظهاره بالحجج والآيات‏.‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ على أن ما وعده كائن‏.‏ وعن الحسن‏:‏ شهد على نفسه أنه سيُظهر دينه، أو‏:‏ كفى به شهيداً على نبوة محمد صلى عليه وسلم وهو تمييز، أو حال‏.‏

‏{‏محمد رسولُ الله‏}‏ أي‏:‏ ذلك المرسَل بالهدى ودين الحق هو محمد رسول الله، فهو خبر عن مضمر، و«رسول»‏:‏ نعت، أو‏:‏ بدل، أو‏:‏ بيان، أو‏:‏ «محمد»‏:‏ مبتدأ و«رسول»‏:‏ خبر، ‏{‏والذين معه‏}‏ مبتدأ، خبره‏:‏ ‏{‏أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم‏}‏ أو‏:‏ «الذين»‏:‏ عطف على «محمد»، و«أشداء»‏:‏ خبر الجميع، أي‏:‏ غِلاظ شِداد على الكفار في حَرْبهم، رُحماء متعاطفون بينهم، يعني‏:‏ أنهم كانوا يُظهرون لمَن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمَن وافقَ دينهم الرأفةَ والرحمةَ، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتَحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم‏:‏ أنهم كانوا لا يرى مؤمنٌ مؤمناً إلا صافحه وعانقه‏.‏

وهذا الوصف الذي مَدَحَ اللّهُ به الصحابةَ رضي الله عنهم مطلوبٌ من جميع المؤمنين، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادَّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى» رواه البخاري، وقال أيضاً‏:‏ «نَظَرُ الرجل إلى أخيهِ شوقاً خيراُ من اعتكاف سَنَة في مسجدِي هذا»، ذكره في الجامع‏.‏

‏{‏تراهم رُكَّعاً سجداً‏}‏ أي‏:‏ تُشاهدُهم حال كونهم راكعين ساجدين؛ لمواظبتهم على الصلوات، أو‏:‏ على قيام الليل، كما قال مَن شاهد حالهم‏:‏ رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار، وهو استئناف، أو‏:‏ خبر، ‏{‏يبتغون فضلاً من الله ورضواناً‏}‏ أي‏:‏ ثواباً ورضا وتقريباً ‏{‏سِيماهم‏}‏ علامَاتهم ‏{‏في وجوههم‏}‏ في جباههم ‏{‏من أثر السجود‏}‏ أي‏:‏ من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود‏.‏ وما رُوي عنه عليه السلام‏:‏ «لا تُعلموا صوَركم» أي‏:‏ لا تسمُوها، إنما هو فيمن يتعَمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض، ليحدث ذلك فيها، وذلك رياء ونفاق، وأما إن حَدَثَ بغير تعمُّد، فلا ينهى عنه، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غُرة في جباههم مع تحقُّق إخلاصهم‏.‏

وقال منصور‏:‏ سألت مجاهداً عن قوله‏:‏ ‏{‏سيماهم في وجوههم‏}‏ أهو الأثر يكون بين عيني الرجل‏؟‏ قال‏:‏ لا ربما يكون بين عيني الرجل مِثلُ ركبة البعير، وهو أقسى قلباً من الحجارة، ولكنه نورٌ في وجوهم من الخشوع‏.‏ وقال ابن جيرح‏:‏ هو الوقار والبهاء، وقيل‏:‏ صفرة الوجوه، وأثر السهر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم مرضى‏.‏ وقال سفيان وعطاء‏:‏ استنارت وجوههم من طول ما وصلُّوا بالليل، لقوله عليه السلام‏:‏ «مَن كَثُرت صلاتُه بالليل حَسُن وجْههُ بالنَّهار» وقال ابن عطية‏:‏ إنه من قول شريك لا حديث، فانظره، وقال ابن جبير‏:‏ في وجوههم يوم القيامة يُعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا لله تعالى‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ذلك مَثَلُهم في التوراة‏}‏ الإشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة، وما فيها من معنى البُعد مع قُرب العهد للإيذان بعلو شأنه، وبُعد منزلته في الفضل، أي‏:‏ ذلك وصفهم العجيب الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، هو نعتهم في التوراة، أي‏:‏ كونهم أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم، سيماهم في وجوههم‏.‏

ثم ذكر وَصْفَهم في الإنجيل فقال‏:‏ ‏{‏ومَثَلُهم في الإِنجيل كزرعٍ‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، وقيل عطفٌ على ما قبله، بزيادة «مَثَلَ»، أي‏:‏ ذلك مثلُهم في التوراة والإنجيل، ثم بيَّن المثل فقال‏:‏ هم كزرع ‏{‏أخرج شطأه‏}‏ فِرَاخَه، يقال‏:‏ أشْطأ الزرع‏:‏ أفرخ، فهو مُشْطِىءٌ، وفيه لغات‏:‏ شطأه بالسكون والفتح، وحذف الهمزة، كقضاة‏.‏ و«شطَهُ»، بالقصر، ‏{‏فآزره‏}‏ فقوّاه، من‏:‏ المؤازرة، وهي الإعانة، ‏{‏فاستغلظ‏}‏ فصار من الرقة إلى الغلظ، ‏{‏فاستوى على سُوقه‏}‏ فاستوى على قصبه، جمع‏:‏ ساق، ‏{‏يُعجِبُ الزُّرَّاع‏}‏ يتعجبون من قوّته، وكثافته، وغِلظه، وحُسن نباتِه ومنظره‏.‏ وهو مَثَلٌ ضربه الله لأصحابه صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، بتَرَقي أمرُهم يوماً بيوم، بحيث أعجب الناسَ أمرهم، فكان الإسلام يتقوّى كما تقوى الطاقة من الزرع، بما يحتفّ بها مما يتولّد منها‏.‏

وقيل‏:‏ مكتوب في الإنجيل‏:‏ سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينْهون عن المنكر‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ أخرج شطأه بأبي بكر، فآرزه بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعليّ‏.‏ وحكى النقاش عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ الزرعُ النبي صلى الله عليه وسلم، فآزره عليّ بن أبي طالب، فاسغلظ بأبي بكر، فاستوى على سوقه بعمر‏.‏ ه‏.‏

واختار ابن عطية‏:‏ أن المَثَل شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث وحده، فهو الزرع، حَبّة واحدة، ثم كثُر المسلمون، فهم كالشطْءِ، تَقَوّى بهم صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏ليغيظ بهم الكفار‏}‏ تعليل لما يُعرب عنه الكلامُ من تشبيههم بالزرع في ذكائه واستحكامه، أي‏:‏ جعلهم كذلك ليغيظ بهم مَن كَفَر بالله‏.‏

‏{‏وَعَدَ اللّهُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرةً وأجراً عظيماً‏}‏ استئناف مُبيِّن لما خصَّهم به من الكرامة في الآخرة، بعد بيان ما خصَّهم به في الدنيا، ويجوز أن يرجع لقوله‏:‏ ‏{‏ليغيظ بهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ أي‏:‏ ليغيظ بهم وعَدهم بالمغفرة والأجر العظيم؛ لأن الكفار إذا سمعوا ما أُعدّ لهم في الآخرة مع ما خصَّهم في الدنيا من العزة والنصر غاظهم ذلك أشد الغيظ، و«من» في «منهم» للبيان، كقوله‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ أي‏:‏ وعد الله الذين آمنوا من هؤلاء‏.‏

الإشارة‏:‏ هو الذي أرسل رسول بالهدى‏:‏ بيان الشرائع، ودين الحق‏:‏ بيان الحقائق، فمَن جمع بينهما من أمته ظهر دينُه وطريقته، وهذا هو الوليّ المحمدي، أعني‏:‏ ظاهره شريعة، وباطنه حقيقة، وما وصَف به سبحانه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وصْفُ الصوفية، أهل التربية النبوية، خصوصاً طريق الشاذلية، حتى قال بعضهم‏:‏ مَن حلف أن طريق الشاذلية عليها كانت بواطنُ الصحابة ما حنث‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبتغون فضلاً من الله ورضواناً‏}‏ قال الورتجبي‏:‏ أي‏:‏ يطلبون مزيدَ كشف في الذات والدنو والوصالِ والبقاء مع بقائه بلا عتاب ولا حجاب، وهذا محل الرضوان الأكبر‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيماهم في وجوههم‏}‏ أي‏:‏ نورهم في وجوههم، لتوجهِهم نحو الحق، فإنَّ مَن قَرُب من نور الحق ظهرت عليه أنورا المعرفة، وجمالُها وبهاؤها، ولو كان زنجيّاً أو حبشيّاً، وفي ذلك قيل‏:‏

وعلى العارفين أيضاً بهاءُ *** وعليهم من المحبّة نورُ

ويقال‏:‏ السيما للعارفين، والبَهجة للمحبين، فالسيما هي الطمأنينة، والرزانة، والهيبة، والوقار، كل مَن رآهم بديهةً هابَهم، ومَن خالطهم معرفةً أحبهم، والبهجة‏:‏ حسن السمت والهَدْي، وغلبة الشوق، والعشقُ، واللهج بالذكر اللساني‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وروى السلمي عن عبد العزيز المكي‏:‏ ليس السيما النُحولة والصفرة، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين، يبدو من باطنهم على ظاهرهم، يتبين ذلك للمؤمنين، ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ ترى على وجوههم هيئة لقُرب عهدِهم بمناجاة سيدهم‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ ترى عليهم طِلع الأنوار لائحة‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ المؤمن وجهٌ لله بلا قفا، مقبلاً عليه، غير معرض عنه، وذلك سيما المؤمن‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الحجرات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ تصدير الخطاب بالنداء، تنبيهُ المخاطبين على أنَّ في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به، ‏{‏لا تُقدِّموا‏}‏ أي‏:‏ لا تفعلوا التقديم، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمرٍ من الأمور، على طريقة قولهم‏:‏ فلان يعطي ويمنع، أو‏:‏ لا تُقدّموا أموراً من الأمور، على حذف المفعول، للعموم، أو‏:‏ يكون التقديم بمعنى التقدُّم، من «قدّم» اللازم، ومنه‏:‏ مقدمة الجيش، للجماعة المتقدَّمة، ويؤيده قراءة مَن قرأ‏:‏ ‏(‏لا تَقدَّموا‏)‏ بحذف أحدى التاءين، أي‏:‏ لا تتقدموا ‏{‏بين يدي اللّهِ ورسولهِ‏}‏‏:‏ لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به، وحقيقة قولك‏:‏ جلست بين يدي فلان‏:‏ أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسُميت الجهتان يدين؛ لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما، توسعاً، كما يُسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره‏.‏

وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يُسمى تمثيلاً، وفيه فائدة جليلة، وهي‏:‏ تصوير الهُجْنَةِ والشناعة فيما نُهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة‏.‏ ويجوز أن يجري مجرى قولك‏:‏ سرَّني زيد وحُسْنُ ماله، فكذلك هنا المعنى‏:‏ لا تُقدِّموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وفائدة هذا الأسلوب‏:‏ الدلالة على قوة الاختصاص، ولمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى؛ سلك به هذا المسلك، وفي هذا تميهد لما نُقِم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته؛ لأن مَن فضَّله الله بهذه الأَثْرة، واختصه بهذا الاختصاص، كان أدنى ما يجب له من التهيُّب والإجلال‏:‏ إن لا يُرفع صوتٌ بين يديه، ولا يُقطع أمر دونه، فالتقدمُ عليه تَقَدمٌ على الله؛ لأنه لا ينطلق عن الهوى، فنبغي الاقتداء بالملائكة؛ حيث قيل فيهم‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 27‏]‏ الخ‏.‏

قال عبد الله بن الزبير‏:‏ قَدِمَ وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر‏:‏ لو أمَّرت عليهم القعقاع بن معبد، وقال عمر‏:‏ يا رسول الله؛ بل أَمِّر الأقرعَ بن حابس؛ فقال أبو بكر‏:‏ ما أردتُ إلا خلافي، وقال عمر‏:‏ ما أردتُ خِلافَك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت‏.‏ فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ لا تُقَدِّموا وُلاةً، والعموم أحسن كما تقدّم‏.‏ وعبارة البخاري‏:‏ «وقال مجاهد‏:‏ ‏(‏لا تقُوموا‏)‏ لا تَفْتاتُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَقضي اللّهُ- عزّ وجل- على لسانه»‏.‏ وعن الحسن‏:‏ أن ناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة، فنزلت، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا، وعن عائشة‏:‏ أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك‏.‏

‏{‏واتقوا اللّهَ‏}‏ في كل ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال، التي من جملتها ما نحن فيه، ‏{‏إِنَّ اللّهَ سميع‏}‏ لأقوالكم ‏{‏عليم‏}‏ بأفعالكم، فمن حقِّه أن يُتَّقى ويُراقَب‏.‏

‏{‏يا أيها آمنوا لا ترفعوا أصواتَكم فوقَ صوتِ النبي‏}‏ شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد؛ للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه؛ أي‏:‏ لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدٍّ يبلغه صوته صلى الله عليه وسلم، بل يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم، حتى تكون مزيّته عليكم لائحةً، وسابقته لديكم واضحة‏.‏

‏{‏ولا تجهروا له بالقول‏}‏ إذا كلّمتموه ‏{‏كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ‏}‏ أي‏:‏ جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، واختاروا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس، كما هو الدأب في مخاطبة المهابِ المُعظّم، وحافظوا على مراعاة هيبة النبوة وجلالة مقدارها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض‏}‏‏:‏ لا تقولوا‏:‏ يا محمد، يا أحمد، بل‏:‏ يا رسول الله‏.‏ يا نبي الله، ولمّا نزلت هذه الآية؛ ما كلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر إلا كأخي السِّرار‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَاس، وكان في أذنيه وَقْر، وكان جَهْوَريَّ الصوت، وكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيتأذّى من صوته‏.‏ ه‏.‏ والصحيح ما تقدّم‏.‏ وفي الآية أنهم لم يُنهوا عن الجهر مطلقاً، وإنما نُهوا عن جهرٍ مخصوص، أي‏:‏ الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النبوة، وجلالة مقدارها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن تحبط أعمالُكم‏}‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم، ‏{‏وأنتم لا تشعرون‏}‏ فإنَّ سوء الأدب ربنا يؤدي بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر‏.‏ ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس في بيته ولم يخرج، فتَفقَّده صلى الله عليه وسلم، فدعاه فسأله، فقال‏:‏ يا رسول الله؛ لقد أُنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لست هناك، تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة»‏.‏

وأما ما يُروى عن الحسن‏:‏ أنها نزلت في المنافقين، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم فقد قيل‏:‏ محْمله‏:‏ أنّ نهيهم مندرج تحت نهي المؤمنين بدليل النص‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسول الله‏}‏ أي‏:‏ يخفضون أصواتهم في مجلسه، تعظيماً له، وانتهاءً عما عنه، ‏{‏أولئك الذين امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى‏}‏ أي‏:‏ أخلصها وصفَّاها، من قولهم‏:‏ امتحن الذهب وفَتَنه‏:‏ إذا أذابه، وفي القاموس‏:‏ محنَه، كمنعه‏:‏ اختبره، كامتحنه، ثم قال‏:‏ وامتحن القول‏:‏ نَظَرَ فيه ودبّره، والله قلوبَهم‏:‏ شرحها ووسّعها، وفي الأساس‏:‏ ومن المجاز‏:‏ محنَ الأديمَ‏:‏ مدّده حتى وسعه، وبه فسّر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى‏}‏ أي‏:‏ شرحها ووسعها، ‏{‏لهم مغفرة وأجرٌ عظيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم‏:‏ نعيم الجنان‏.‏

الإشارة‏:‏ على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوَّنوه من آداب المريد مع الشيخ، وهي كثيرة أُفردت بالتأليف، وقد جمع شيخنا البوزيدي الحسني رضي الله عنه كتاباً جليلاً جمع فيه من الآداب ما لم يُوجد في غيره، فيجب على كل مريد طالب للوصول مطالعتُه والعملُ بما فيه‏.‏

والذي يُؤخذ من الآية‏:‏ أنه لا يتقدم بين يدي شيخه بالكلام، لا سيما إذا سأله أحدٌ، فمِن الفضول القبيح أن يسبق شيخَه بالجواب، فإنَّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ، مع ما فيه من إظهار علمه، وإشهار شأنه، والتقدم على شيخه‏.‏ ومن ذلك أيضاً‏:‏ ألاَّ يقطع أمراً دون مشورته، ما دام تحت الحجرية، وألاَّ يتقدم أمامه في المشي إلا بإذنه، وأن يغضّ صوته عند حضوره، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له في الكلام، ويكون بخفض صوت وتعظيم‏.‏

قلت‏:‏ وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة؛ إذ بالكلام تُعرف أحوال الرجال، وسَمِعتُ شيخ شيخنا، مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول‏:‏ حُكّونا في المذاكرة؛ ليظهر العلم، وكونوا معنا كما قال القائل‏:‏ حك لي نربل لك، لا كما قال القائل‏:‏ سَفِّجْ لي نعسل لك‏.‏ ه‏.‏ لكن يكون بحثُه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام، من غير معارضة ولا جدال، وإلا وإلا فالسكوت أسلم‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏لا تُقدّموا بين يَدي الله ورسوله‏}‏ لا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئاً، وقُفوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، أي‏:‏ اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ترفعوا أصواتَكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يُشير إلى أنه من شرط المؤمن‏:‏ ألا يرى رأيَه وعقلَه واختيارَه فوق رأي النبي والشيخ، ويكون مستسلماً لرأيه، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته، ‏{‏ولا تجهرا له بالقول كجهر بعضكم لبعض‏}‏ أي‏:‏ لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم، وإنه لحُسْن خُلقه قد يُلاعبكم، فلا تنبسطوا معه، متاجسرين عليه بما يُعاشركم من خُلقه، ولا تَبدأوه بحديث حتى يُفاتحكم، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم، وأنتم لا تشعرون‏.‏ إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي‏:‏ انتزع عنها حبّ الشهوات، وصفّاها من دنس سوءِ الأخلاق، وتخلقت بمكارم الأخلاق، حتى انسلختْ من عادات البشرية‏.‏ ه‏.‏

وقال في القوت‏:‏ الوقاية مقرونة بالنصرة؛ فإذا تولاَّه نَصَره على أعدائه، وأعْدى عدُوه نفْسُه، فإذا نَصَره عليها، أخرج الشهوة منها، فامتحنَ قلبَه للتقوى، ومحّض نفسَه، فخلّصها من الهوى‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُنادونك من وراء الحجرات‏}‏ من خارجها، أو‏:‏ من خلفها، أو‏:‏ من أمامها، فالوراء‏:‏ الجهةُ التي تُواري عنك الشخص تُظلّله من خلف أو من قُدّام، و«مِن» لابتداء الغاية، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة‏:‏ الرقعة من الأرض، المحجورة بحائطٍ يحوط عليها، فعْلة، بمعنى مفعولة، كالقُبْضَة، والجمع‏:‏ حُجُرات، بضمتين، وبفتح الجيم، والمراد‏:‏ حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل امرأة حُجرة‏.‏

نزلت في وفد بني تميم، وكانوا سبعين، وفيهم عينيةُ بن حِصنُ الفزاري، والأقرعُ بن حابس، وفَدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة، وهو راقد، فنادوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته، وقالوا‏:‏ اخرجْ إلينا يا محمدُ؛ فإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وذمّنا شيْن، فاستيقظ، وخرج عليه السلام وهو يقول‏:‏ «ذلكم الله الذي مدحُه زين، وذمّه شين»، فقالا‏:‏ نحن قوم من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا، لنُشاعركَ، ونُفاخرك، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بالشعر بُعثت، ولا بالفخار أُمرت»، ثم أمر صلى الله عليه وسلم خطيبهم فتكلّم، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس- وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قم، فقام، فخطب، فأقحم خطيبَهم، ثم قام شاب منهم، فأنشأ يقول‏:‏

نَحنُ الْكرامُ فَلاَ حَيٌّ يُعَادِلُنَا *** فينا الرُّؤوس وفينا يُقْسَمُ الرَّبعُ

ونُطعِمُ النَّاسَ عِندَ الْقَحطِ كُلَّهمُ *** إنَّا كَذَلِكِ عِنْدَ الْفخرُ نَرْتَفعُ

فقال صلى الله عليه وسلم لحسّان‏:‏ قم فأجبه، فقال‏:‏

إنَّ الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتهمْ *** قَدْ شَرَّعوا سُنَّةً للناس تُتبعُ

يرضى بها كلُّ مَن كانت سريرتُه *** تَقوَى الإله وكلُّ الفخر يُصطنعُ

ثم قال الأقرع شعراً افتخر به، فقال عليه السلام لحسّان‏:‏ قم فأجبه، فقال حسّان‏:‏

بَنِي دَارِمٍ، لاَ تَفْخُروا، إِنَّ فَخْرَكُمْ *** يَعُودُ وَبالاً عِنْد ذِكْرِ الْمكَارِمِ

هَبلْتُم، عَليْنا تَفْخرُون وأَنْتُم *** لَنا خَوَلٌ من بَيْن ظِئْرٍ وخادِمِ

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد كنتَ غنياً عن هذا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن الناس قد نسوه»، ثم قال الأقرعُ‏:‏ تكلم خطيبُنا، فكان خطيبهُم أحسن قِيلاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعِرُهم أشعر‏.‏ ه‏.‏

هذا ومناداتُهم من وراء الحجرات؛ إما لأنهم أتَوْها حجرةً حجرة، فنادوه صلى الله عليه وسلم من ورائها، أو‏:‏ بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له صلى الله عليه وسلم، أو‏:‏ نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جُمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الذي ناداه عُيينةُ بن حصن والأقرعُ، وإنما أُسند إلى جميعهم لأنهم راضون بذلك وأَمروا به‏.‏ ‏{‏أكثرُهم لا يعقلون‏}‏ إذ لو كان لهم عقل لَمَا تجاسروا على هذه العظيمة من سوء الأدب‏.‏

‏{‏ولو أنهم صبروا‏}‏ أي‏:‏ ولو تحقق صبرُهم وانتظارُهم، فمحل ‏{‏أنهم صبروا‏}‏ رفعٌ على الفاعلية؛ لأنَّ «أنْ» تسبك بالمصدر، لكنها تفيد التحقق والثبوت، للفرق بين قولك‏:‏ بلغني قيامك، وبلغني أنك قائم، و«حتى» تُفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مُغَيّاً بخروجه عليه السلام، فإنها مختصة بالغايات‏.‏ والصبرُ‏.‏ حبسُ النفس على أن تُنازع إلى هواها وقيل‏:‏ «الصبر مرٌّ، لا يتجرعه إلا حُرٌّ»‏.‏ أي‏:‏ لو تأنوا حتى تخرج إليهم بلا مناداة؛ لكان الصبرُ خيراً لهم من الاستعجال، لِما فيه من رعاية حسن الأدب، وتعظيمِ الرسول، الموجبتين للثناء والثواب، والإسعاف بالمسؤول؛ إذ رُوي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العَنبر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث سريةً إلى حي بني العنبر، وأمّرَ عليهم عُيينة بن حِصن، فهربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عُيينة، ثم قَدِم رجالُهم يَفْدون الذراري، فلما رأتهم الذراريُّ أجهشوا إلى آبائهم يَبْكون، فعَجلوا أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنادَوْه حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فأطلق النصف وفادى النصف، ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ بليغ المغفرة والرحمة واسعهما، فلن يضيق ساحتُهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا‏.‏

الإشارة‏:‏ من آداب المريد ألاَّ يُوقظ شيخَه من نومه، ولو بقي ألف سنة ينتظره، وألاَّ يطلب خروجَه إليه حتى يخرجَ بنفسه، وألاَّ يقف قُبالة باب حجرته لئلا يرى بعض محارمه‏.‏ ومن آدابه أيضاً‏:‏ ألا يبيت معه في مسكن واحد، وألا يأكل معه، إلا أن يعزم عليه، وألا يجلس على فراشِه أو سجّادته إلا بأمره، وإذا تعارض الأمر والأدب، فهل يُقدّم الأمر أو الأدب‏؟‏ خلاف، وقد تقدم في صلاح الحديبية‏:‏ أن سيدنا عليّاً- كرّم الله وجهه- قدَّم الأدب على الأمر، حين قال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ «امح اسم رسول الله من الصحيفة»، فأبى، وقال‏:‏ «والله لا أمحول أبداً» والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِن جاءكم فاسق بنبأٍ‏}‏ نزلت في الوليد بن عُبة بن أبي مُعَيْط، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطلِق، بعد الوقعة مصدِّقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فخرجوا يتلقّونه، تعظيماً النبي صلى الله عليه وسلم، فظنّ أنهم مقاتلوه؛ فرجع، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد ارتدُّوا ومنعوا الزكاة، فَهمَّ صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم، ثم أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه أنهم إنما خرجوا يتلقّونه تكرمةً؛ فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم «خالد بن الوليد» خفيةً مع عسكر، وأمره أن يُخفي عليهم قدومَه، ويتطلعَ عليهم، فإن رأى ما يدلّ على إيمانهم؛ أخذ زكاتهم ورجع، وإن رأى غير ذلك؛ استَعمل فيهم ما يُستعمل في الكفار، فسمع خالدُ فيهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ صدقاتهم، ولم يرَ منهم إلا الطاعة، فنزلت الآية‏.‏

وسُمِّي الوليد فاسقاً لعدم تَثَبُّته؛ فخرج بذلك عن كمال الطاعة، وفي تسميته بذلك زجرٌ لغيره، وترغيبٌ له في التوبة، والله تعالى أعلم بغيبه، حتى قال بعضهم‏:‏ إنها من المتشابه، لِمَا ثبت من تحقُّق إيمان الوليد‏.‏ وقال أبو عمر في الاستيعاب‏:‏ لا يصح أن الآية نزلت في قضية الوليد؛ لأنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من ثمانية أعوام، أو من عشرة، فكيف يبعثه رسولاً‏؟‏‏!‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ لا غرابةَ فيه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّر أسامةَ بن زيد على جيش، فيه أبو بكر وعمر، مع حداثة سِنِّه، كما في البخاري وغيره‏.‏

وفي تنكير ‏(‏فاسق‏)‏ و‏(‏نبأ‏)‏ شِياعٌ في الفُسَّاق والأنباء، أي‏:‏ إذا جاءكم فاسقٌ أيّ فاسقٍ كان، بأيِّ خبر ‏{‏فتبَيَّنوا‏}‏ أي‏:‏ فتوقفوا فيه، وتطلَّبوا بيان الأمر وانكشافَ الحقيقة، ولا تعتمدوا قولَ مَن لا يتحرّى الصدق، ولا يتحامى الكذب، الذي هو نوع من الفسوق‏.‏

وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد العَدل؛ لأنا لو توقفنا في خبره؛ لسوّينا بينه وبين الفاسق، ولخلا التخصيص به عن الفائدة‏.‏ وقرأ الأخوان‏:‏ «فثبتوا» والتثبُّت والتبيُّن متقاربان، وهما‏:‏ طلبُ الثبات والبيان والتعرُّف‏.‏

‏{‏أن تُصيبوا‏}‏ أي‏:‏ لئلا تصيبوا ‏{‏قوماً بجهالةٍ‏}‏ حال، أي‏:‏ جاهلين بحقيقة الأمر وكُنه القصة‏.‏ ‏{‏فتُصْبِحوا‏}‏ فتصيروا ‏{‏على ما فعلتم نادمين‏}‏ مغتمِّين على ما فعلتم، متمنين أنه لم يقع، والندم‏:‏ ضرب من الغلم؛ وهو أن يَغتم على ما وقع، يتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحبُ الإنسان صحبةً لها دوامٌ في الجملة‏.‏

‏{‏واعلموا انَّ فيكم رسولَ الله‏}‏ فلا تكْذبوا، فإن الله يُخبره، فيهتك سر الكاذب، أو‏:‏ فارجعوا إليه واطلبوا رأيه، ثم استأنف بقوله‏:‏ ‏{‏لو يُطيعُكم في كثير من الأمر لعَنتُّم‏}‏ لوقعتم في العنت؛ وهو الجهد والهلاك‏.‏

والتعبيرُ بالمضارع للدلالة على أنّ عَنَتَهم إنما يلزم في استمرار طاعته لهم في كل ما يعرض من الأمور، وأما طاعته في بعض الأمور استئلافاً لهم، فلا‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏ وهذا يدل على أنَّ بعض المؤمنين زيّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد، وأنَّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويتحرّجون الوقوعَ بهم تأنياً وتثُبتاً في الأمر، وهم الذين استثناهم الله بقوله‏:‏

‏{‏ولكنَّ الله حَبَّبَ إِليكم الإِيمانَ‏}‏ وأسنده إلى الكل تنبيهاً على أن أكثرهم تحرّجوا الوقوعَ بهم وتأنّوا، وقيل‏:‏ هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، وهو تجديدٌ للخطاب وتوجيه إلى بعضهم بطريق الاستدراك، بياناً لِبراءَتهم عن أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم، أي‏:‏ ولكنه- تعالى- جعل الإيمان محبوباً لديكم ‏{‏وزيَّنه في قلوبكم‏}‏ حتى رسخ فيها، ولذلك صدر منكم ما يليق به من التثبُّت والتحرُّج، وحاصل الآية على هذا‏:‏ واعلموا أنَّ فيكم رسول الله، فلا تُقِرُّون معه على خطأ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم، ولكنَّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان، فلا يأمر إلا بما هو صواب من التأنِّي وعدم العجلة‏.‏

قلت‏:‏ والأحسن في معنى الاستدراك‏:‏ أنَّ التقدير‏:‏ لو يُطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم، ولكن الله لا يُقره على طاعتكم بل ينزل عليه الوحي بما فيه صلاحُكم وراحتكُم؛ لأنَّ الله حبَّبَ إليكم الإيمان وزيَّنيه في قلوبكم، فلا يسلك بكم إلا ما يليق بشأنكم من الحِفظ والعصمة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وكَرَّهِ إِليكم الكفرَ والفُسوق والعصيان‏}‏ ولذلك تحرّجتم عمّا لا يليق مما لا خير فيه مما يؤدي إلى عَنَتِكم، قال ابن عرفة‏:‏ العطف في هذه الآية تَدَلِّي؛ فالكفر أشدُّها، والفسوق دونه، والعصيان أخفّ؛ لصدقه على ترك المندوبات، حسبنا نقل ذلك البغداديون وحمَلوا عليه، ومَن لم يُجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏أولئك هم الراشدون‏}‏ أي‏:‏ أولئك المستَثون، أو‏:‏ المتَّصِفون بالإيمان، المزيّن في قلوبهم، هم السالكون على طريق السّوى، الموصل إلى الحق، أي‏:‏ أصابوا طريقَ الحق، ولم يَميلوا عن الاستقامة‏.‏ والرشدُ‏:‏ الاستقامةُ على طريق الحق مع تصلُّبٍ فيه، من‏:‏ الرشادة، وهي الصخرة الصماء‏.‏ ‏{‏فضلاً من الله ونِعمةً‏}‏ أي‏:‏ إفضالاً من الله وإنعاماً عليهم؛ مفعولٌ من أجله، أي‏:‏ حبَّب وكرّه للفضل والنعمة عليهم ‏{‏والله عليمٌ‏}‏ مبالغ في العلم، فيعلم أحوالَ المؤمنين وما بينهم من التفاضل، ‏{‏حكيمٌ‏}‏ يفعل ما يفعل الحكمةٍ بالغة‏.‏

الإشارة‏:‏ إن جاءكم خاطرُ سوء بنبأ سوءٍ فتبيّنوا وتثبّتوا، ولا تُبادروا بإظهاره، خشية أن تُصيبوا قوماً بجهالة، فتظنُّوا بهم السوء، وتقعوا في الغيبة، فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين، فالمنافق قلبه على طرَف لسانه، إذا خطر فيه شيء نطق به، فهذا هالك، والمؤمن لسانه من رواء قلبه، إذا خطر شيءٌ نظر فيه، ووَزَنه بميزان الشرع، فإن كان فيه مصلحة نطق به، وإلا ردَّه وكتمه، فالواجبُ‏:‏ وزن الخواطر بالقسطاس المستقيم، فلا يُظهر منها إلا ما يعود عليه منفعته‏.‏

‏{‏واعملوا أن فيكم رسولَ الله‏}‏ قد بَيَّن لكم ما تفعلون وما تذرون، ظاهراً وباطناً، ومَن اتصل بخليفة الرسول، وهو الشيخ حكّمه على نفسه، فإن خطر في قلبه شيءٌ يهِمُّ أمرُه عَرَضه عليه، والشيخ ينظر بعين البصيرة، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمركم التي تعزمون عليها لَعَنِتُّم، ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمانَ، وزيَّنه في قلوبكم، فتَستمعُون لما يأمركم به، وتمتثلون أمره، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق؛ الخروجَ عن أمره ونهيه، والعصيان لما يأمرُكم به، فلا تَرون إلا ما يسرّكم، ويُفضي بكم إلى السهولة والراحة، فضلاً من الله ونعمة، فإنَّ السقوط على الشيخ إنما هو محض فضل وكرم، فللّه الحمد وله الشكر دائماً سرمداً‏.‏

وللقشيري إشارة أخرى، قال‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ‏}‏ يشير إلى تسويلات النفوس الأمّارة بالسوء، ومجيئها كل ساعة بنبأِ شهوةٍ من شهوات الدنيا، فتبيّنوا ربحَها من خسرانها، من قبل أن تُصيبوا قوماً من القلوب وصفائها بجهالة، فإنَّ ما فيه شفاءُ النفوس وحياتها فيه مرضُ القلوب ومماتُها؛ فتُصبحوا صباحَ القيامة على ما فعلتم نادمين، واعملوا أن فيكم رسولَ الله، يُشير إلى رسول الإلهام في أنفسكم، يُلهمكم فجور نفوسكم وتقواها، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمرِ النفس الأمّارة، لَعَنِتُّم؛ لوقعتم في الهلاك، ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان بالإلهامات الربانية، وزيَّنه في قلوبكم بقلم الكَرَم، وكرَّه بنور نظر العناية إليكم الكفر، والفسوق‏:‏ هو ستر الحق والخروج إلى الباطل، والعصيان، وهو الأعراض عن طلب الحق، أولئك هم الراشدون إلى الحق بإرشاد الحق، فضلاً من الله ونعمةً منه، يُنعم به على مَن شاء مِن عباده، ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏ أي‏:‏ تقاتلوا‏.‏ والجمعُ باعتبار المعنى؛ لأن كلّ طائفة جمعٌ؛ كقوله‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏فأصْلِحوا بينهما‏}‏ بالنصح والدعاء إلى حُكم الله تعالى، ‏{‏فإِن بَغَتْ إِحداهما على الأخرى‏}‏ ولم تتأثر بالنصحية ‏{‏فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ‏}‏ ترجع ‏{‏إِلى أمر الله‏}‏ إلى حُكمه، أو‏:‏ إلى ما أمر به من الصُلح وزوال الشحناء، والفيء‏:‏ الرجوع، وقد يُسمى به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجعُ بعد نسخ الشمس، والغنيمة ترجع من أيدي الكفار إلى المسلمين‏.‏

وحكم الفئة الباغية‏:‏ وجوب قتالها، فإذا كفَّت عن القتال أيديَها تُركت‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ وأَمَرَ اللّهُ في هذه الآية بقتال الفئة الباغية؛ وذلك إذا تبيَّن أنها باغية، فأما الفتنُ التي تقع بين المسلمين؛ فاختلف العلماءُ فيها على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لا يجوز النهوض، في شيء منها ولا القتال، وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص، وأبي ذر، وجماعة من الصحابة، وحجتُهم حديث‏:‏ «قتال المسلم كفر»، وحديث‏:‏ الأمر بكسر السيوف في الفتن، والقولُ الثاني‏:‏ النهوضُ فيها واجبٌ، لتُكفَ الفئةُ الباغية، وهذا مذهب عليّ، وعائشة، وطلحة، وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء، وحجتُهُم هذه الآية‏.‏ فإذا فرّعنا على القول الأول، فإن دخل داخلٌ على مَن اعتزل الفرقتين منزلَه يريد نفسَه أو مالَه فعليه دفعُه، وإن أدّى ذلك إلى قتله؛ لحديث‏:‏ «مَن قُتل دون نفسه وماله فهو شهيد»، وإذا فرّعنا على الثاني، فاختُلف؛ مع مَن يكون النهوضُ من الفئتين‏؟‏ فقيل‏:‏ مع السواد الأعظم، وقيل‏:‏ مع العلماء، وقيل‏:‏ مع مَن يُرى أنّ الحق معه‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ إذا وقعت الحرب بين القبائل فمَن تعدَّت تُربتَها إلى تربة غيرها فهي باغيةٌ، يجب كفُّها، وإذا وقعت بين الحدود؛ فالمشهور‏:‏ النهوض، ثم يقع السؤال عن السبب؛ فمَن ظهر ظُلمه وَجَب كفّه، فإن أشكل الأمر، فالأمساك عن القتال أسلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏فإِن فاءتْ‏}‏ عن البغي، وأقلعت عن القتال؛ ‏{‏فأَصْلِحوا بينهما بالعدل‏}‏ بفصل ما بينهما على حُكمِ الله تعالى، ولا تكتفوا بمجرد متاركتِهما؛ لئلا يكون بينهما قتال في وقتٍ آخر، وتقييدُ الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة، وقد أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأَقْسِطوا‏}‏ أي‏:‏ واعدلوا في كل ما تأتون وما تَذرون، ‏{‏إِنَّ الله يحب المُقْسِطِين‏}‏ العادلين، فيُجازيهم أحسنَ الجزاء، والقَسط بالفتح‏:‏ الجَور، وبالكسر‏:‏ العدلُ، والفعل من الأول‏:‏ قَسط فهو قاسط‏:‏ جارَ، ومن الثاني‏:‏ أقسط فهو مقسط‏:‏ عَدل، وهمزتُه للسلب، أي‏:‏ أزل القسط، أي‏:‏ الجور‏.‏

والآية نزلت في قتالٍ حدث بين الأوس والخزرج، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يعود سعدَ بنَ عُبادة، فمرّ بمجلسٍ من الأنصار، فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين، فوقف صلى الله عليه وسلم على المجلس، ووعظ وذكَّر، فقال عبد الله بن أُبي‏:‏ يا هذا، لا تؤذنا في مجالسنا، واجلس في موضعك، فمَن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بنُ رواحة‏:‏ بل أغثنا يا رسول الله وذكِّرنا، فارتفعت أصواتهما، وتضاربوا بالنعال، فنزلت الآية، وقيل غير ذلك‏.‏

وفي الآية دليل على أنَّ لا يخرج ببغيه عن الإيمان، وأنه يجب نُصرة المظلوم، وعلى فضيلة الإصلاح بين الناس‏.‏

‏{‏إِنما المؤمنون إِخوةٌ‏}‏ أي‏:‏ منتسبون إلى أصل واحدٍ، وهو الإيمان المُوجب للحياة الأبدية، فيجب الاجتهاد في التآلف بينهما لتحقُّق الأخوة‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأصْلِحوا بين أخوَيكم‏}‏ للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح‏.‏ ووضع المظهر مقامَ المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر؛ لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأَولى؛ لتضاعف الفتنة والفساد فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأخَويْن‏:‏ الأوس والخزرج‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ «إخوتكم» بالجمع‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما تأتون وتذرون، التي من جملتها‏:‏ الإصلاحُ بين الناس ‏{‏لعلكم تُرحمون‏}‏ راجين أن تُرحموا على تقواكم، لأن التقوى تحملكم على التواصل والائتلاف، وهو سبب نزول الرحمة‏.‏

الإشارة‏:‏ النفسُ الطبيعية والروح متقابلان، والحرب بينهما سِجال، فالنفس تريد السقوط إلى أرض الحظوظ والبقاء مع عوائدها، والروح تريد العروج إلى سماء المعارف وحضرة الأسرار، وبينما اتصال والتصاقٌ، فإن غلَبت النفسُ هبطت بالروح إلى الحضيض الأسفل، ومنعتها من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وإن غلبت الروح، عرجت بالنفس إلى أعلى عليين، بعد تزكيتها وتصفيتها، فتكسوها حُلةَ الروحانية، وينكشِف لها من العلوم والأسرار ما كان للروح، ولكلٍّ جندٌ تقابل به، فيقال من طريق الإشارة‏:‏ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصْلِحوا بينهما، بأن تؤخَذَ النفسُ بالسياسة شيئاً فشيئاً، يُنقص من حظوظها شيئاً فشيئاً، حتى تتزكى وتعالَجَ الروحُ لدخول الحضرة، وعكوف الهم في الذكر شيئاً فشيئاً، حتى تدخل الحضرة وهي لا تشعر، ثم تشعُر ويقع الاستغراق‏.‏ وأما إن قُطِعت النفسً عن جميع مألوفاتها مرةً واحدة، أو كُلفت الروحَ الحضورَ في الذكر على الدوام مرةً واحدة، أفسدتهما، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ادخلوا في هذا الدين برفق، فما شاد أحدكم الدين إلا غَلَبه» وقال أيضاً‏:‏ «لا يكن أحدكم كالمُنْبتِّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتِلوا التي تبغي، بأن تُردع النفس إن طغت، وتأخذ لجام الروح إن هاجت، حتى تفيء إلى أمر الله، وهو الاعتدال، فيعطي كلّ ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما المؤمنون إخوة‏}‏ قال الورتجبي‏:‏ افهَم أيها العاقل أن الله سبحانه خلق الأرواحَ المقدسةَ من عالَم الملكوت، وألبسها أنوارَ الجبروت؛ فمواردُها من قُربه مختلفة، لكن عينها واحدة، وخلق هياكلَها وأشباحَها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها، وزيّنها بنور قدرته، ونفخ فيها تلك الأرواح، وجعل من الأرواح والأجسام النفوس الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح، ولا من قبيل الأجسام، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكِنها، فأرسل الله عليها جندَ العقول، يدفع شَرَّها، فإذا امتحن الله عبادَه المؤمنين هيَّج نفوسهم الأمّارة؛ ليُظهر حقائق درجاتهم من الإيمان، فأَمَرهم أن يُعينوا العقلَ والروحَ والقلبَ على النفس حتى تنهزم؛ لأن المؤمنين كالبنيان يشُد بعضُهم بعضاً‏.‏

ثم بيَّن أنّ في الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنجاة، إذا كان مقروناً بالتقوى التي تقدسُ البواطن من البغي والحسد بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله لعلكم تُرحمون‏}‏ فإذا فهِمت ما ذكرتُ علمتَ أنْ حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد، فإنهم كنفسٍ واحدة؛ لأن مصادرهم مصدر واحد، وهو آدم، ومصدر روح آدم نورُ الملكوت، ومصدرُ جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال‏.‏ لذلك يصعد الروحُ إلى الملكوت، والجسم إلى الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل شيء يرجع إلى أصل» ه‏.‏ قلت‏:‏ صعود الروح إلى الملكوت هو شهود معاني الأسرار في دار الجنة، ونزول الجسم إلى الجنة هو تمتُّعه بنعيم حسها في عالم الأشباح، وكل ذلك بعد الموت، وأحسنُ العبارة أن يُقال‏:‏ لأن مصادرَهم مصدر واحد، وهو بحر الجبروت، المتدفق بأنوار الملكوت، والوجود بأَسْره موجةٌ من بحر الجبروت‏.‏

ثم قال الورتجبي‏:‏ قال أبو بكر النقاش‏:‏ سألتُ الجنيد عن الأخ الحقيقي‏؟‏ فقال‏:‏ هو أنت في الحقيقة، غير أنه غيرك في الهيكل‏.‏ قلت‏:‏ يعني أن الناس في الحقيقة ذاتٌ واحدة، وما افترقوا إلا في الهياكل، فكلهم أخوة‏.‏ وقال أبو عثمان الحيري‏:‏ أُخُوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تُقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب‏.‏ ه‏.‏ وتقدم لنا شروط الأخوة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ الآية‏.‏

وقال القشيري هنا‏:‏ ومن حق الأخوة ألا تُلجأه إلى الاعتذار، بل تُبسط عذرَه أي‏:‏ تذكر عذره قبل أن يعتذر، فإن أُشكل عليك وجهه عُدت بالملامة على نفسك في خفاء عذره عليك، وتتوب عليه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض، وإذا أشار عليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة، كما أنشدوا‏:‏

إِذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسأَلُوا مَنْ دَعَاهُم *** لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأيِّ مكَان